قبل عدة أيام وصلني بريد إلكتروني يبشرني بموافقة مطبعة إحدى الجامعات الأمريكية على مقترح كتاب تقدمنا به أنا ومجموعة من الأكاديميين والذي سيشارك فيه كل واحد منّا بفصل. تعجّبت من نفسي وأنا أقرأ البريد، فلم تكن السعادة ولذة الإنجاز هو أول ما شعرت به بقدر ما كان شعور بالضيق بأن إلتزاما جديدا سيضاف الآن لقائمة طويلة تنتظرني من الإلتزامات. عندما قمت بكتابة أول مقالة لي قبل عشرين عاما، لم أكن أعلم يوما بأن الكتابة ستتحول من مجرد كونها شغفا وهواية إلى مهنة تحمل ما تحمله المهنة من معاني ومشاعر الإغتراب.
عندما كنت أسئل “ماذا تريد أن تصبح إذا كبرت؟” أجيب: “طيار”. لم تكن الكتابة حلما أو غاية، بل لم تكن تقدم على أنها مهنة أصلا. لو أردت تحديد نقطة بداية اعتباطية لعلاقتي مع الكتابة، فإن أول ما يحضر في ذهني هو بدايات القراءة المتبعثرة. فأنا أتذكر جيدا أول كتاب تعثرت به. كان ذلك ذات صيف قديم، بينما كنت في المرحلة المتوسطة أقضي جزءاً من الإجازة في الرياض عند خالتي في حيّ الربوة، أحد تجمّعات القصمان في الرياض. فالرياض، على الأقل في تلك الفترة، ليست من ذلك النوع من المدن الذي ينصهر فيه الناس. أحد الأصدقاء يصفها بأنها مدينة بلا معدة، تأكل الناس ولا تهضمهم. فهي أقرب ما تكون إلى مجموعة من التجمعات المناطقية والقبلية المتراصة جنبا إلى جنب: حيّ للقصمان هناك بجانبه حيّ لأهل الزبير، وهناك حيّ لأهل الجنوب، وهكذا، لدرجة أنك تستطيع التنبؤ بأحياء الأشخاص بمجرد أن تعرف من أي منطقة أو خلفية اجتماعية يتحدرون منها. الفقر وحده، ربما، هو الذي يتجاوز هذه الحدود المناطقية والقبلية، ذلك أن الفقراء من كل الأماكن يعيشون في نفس الأحياء المهمشة والفقيرة والمهملة.
في ذلك الصيف، أتذكر أنه كان هناك بالقرب من بيت خالتي أسواق كبيرة اسمها “أسواق الشثري” والذي يبدو أنه قد اختفى من الوجود. كانت هذه الأسواق مبهرة بالنسبة لي، ففيها كل ملذات الدنيا مجتمعة في مكان واحد: أصناف الحلوى والشوكولاته مثل حلوى الرافايلو والريفيرو روشيه والفانفير، وكان هناك ممر كامل فيه كل لعبة يمكن أن يتخيلها طفل. فيه درج آلي وأبواب تفتح دون أن تمسّها، كل هذا كان جديدا عليّ. في ذاك الوقت، بداية التسعينات الميلادية، كان عمر الأسواق التجارية الكبيرة عشر أو خمسة عشر سنة. إذ ءن بدايتها تعود لأواخر السبعينات، عندما أسس كل من عبدالله فؤاد وعلي التميمي، وهما تاجران من المنطقة الشرقية من الذين بنوا تجارتهم من التعاقد مبكراً مع آرامكو، أسواق التميمي بالتعاقد مع شركة (سيف وي) الأمريكية. وفي الرياض أسس الأمير الوليد بن طلال أسواق العزيزية، وأسس حمد سعد الإبراهيم شركة بندة في الرياض، ليندمجا معا في مطلع التسعينات. وفي عام ١٩٨٠، قام عبدالله العثيم، ابن صالح العثيم الذي كان صاحب دكّان صغير في حلة القصمان في الرياض لبيع المواد الغذائية، بتأسيس أسواق العثيم. أكمل قراءة التدوينة